الشيخ أشرف علي عبد الموجود الداعية الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله

قال تعالى:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
الشيخ أشرف علي عبد الموجود الداعية الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله

قال تعالى:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
الشيخ أشرف علي عبد الموجود الداعية الإسلامي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشيخ أشرف علي عبد الموجود الداعية الإسلامي

هذا المنتدي يخص /الدعوة إلي الله
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابه*البوابه*  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تفسير سورة الناس من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مدير المنتدي

ادارة المنتدى


 ادارة المنتدى
مدير المنتدي


عدد المساهمات : 339
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 30/11/2008
العمر : 59
الموقع : https://ashrfali.yoo7.com/

تفسير سورة الناس من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة الناس من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم   تفسير سورة الناس من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم Emptyالأحد مارس 31, 2013 6:37 am

تفسير سورة الناس ــــــ من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم ـــ اعداد الشيخ أشرف على ـــــــــــــــــ مدير أوقاف البدرشين

هذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني: في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي فهذا شر المعائب والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.إذا عرف هذا فالوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن والظاهر والله تعالى أعلم إنها سميت وسوسة لقربها وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن فقيل وسوسة الحلي لأنه صوت مجاور للأذن كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس نعم إنما تتعين مصدرية الوسواس بالسمع أعوذ بالله من وسواس الشيطان فتعين أن الوسواس هو الشيطان نفسه وأنه ذات لا مصدر والله أعلم.
وأما الخناس: فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة: "لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه: وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الاختفاء ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} قال قتادة: "هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى" وكذلك قال علي رضي الله عنه: "هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى" وقالت طائفة: الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق وهي السبعة السيارة" قالوا: وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء" والخناس مأخوذ من هذين المعنيين فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء ليتوارى وذلك الإنخناس والانقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج فهو تأخر ورجوع معه اختفاء وخنس وانخنس يدل على الأمرين معا قال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس ويقال رأسه كرأس الحية وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه ودينه لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل لأنه كلما ذكر الله انخنس ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا وأنها في صدور الناس وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا أو قال شيئا" رواه البخاري وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو" رواه البخاري ومسلم ومن وسوسته ما ثبت وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق الله فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته" رواه البخاري ومسلم وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" صحيح ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه فإن قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزاليمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصبر الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه فأوقعه في الذنب ثم فضحه به فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان رواه البخاري ومسلم ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنيه رواه البخاري رواه البخاري ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته
ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما وتصدى حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه وتصدى لزكريا ويحيى الناس عنه وعن الانتفاع به وذنوب هذا ولو بلغت عنان السماء أهون عند الله من ذنوب هؤلاء فإنها ظلم منه لنفسه إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته وبدل سيئاته حسنات وأما ذنوب أولئك فظلم للمؤمنين وتتبع لعورتهم وقصد لفضيحتهم والله سبحانه بالمرصاد لا تخفى عليه كمائن الصدور ودسائس النفوس فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض " صحيح وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم ولا يعرف هذا إلا من
كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره وليمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه.
وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز له ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر ووسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} ولم يقل فيه لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه فدخل في قلبه.
وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور بم يتعلق فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان إنس وجن فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي
{وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار ومنه الجنة بالضم لما بقي الإنسان من السهام والسلاح ومنه المجنون لاستتار عقله وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو الرؤية والإحساس ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي رآها ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي أحسستموه ورأيتموه فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس أي يرى بالعين والناس فيه قولان أحدهما: أنه مقلوب من أنس وهو بعيد والأصل عدم القلب والثاني هو الصحيح أنه من النوس وهو الحركة المتتابعة فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة كما سمي الرجل حارث وهمام أصدق الأسماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لأن كل أحد له هم وإرادة وهي مبدأ وحرث وعمل هو منتهى فكل أحد حارث وهمام والحرث والهم حركتا الظاهر والباطن وهو حقيقة النوس وأصل ناس نوس تحركت الواو قبلها فصارت ألفا هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس وأما قول بعضهم أنه من النسيان وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم فليس هذا القول بشيء وأين النسيان الذي مادته ن س ي إلى الناس الذي مادته ن وس وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته ان س وأما إنسان فهو فعلان من أن س والألف والنون في آخره زائدان لا يجوز فيه غير هذا البتة إذ ليس في كلامهم أنس حتى لا يكون إنسانا
والمقصود أن الناس إسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} وهذا واضح لا خفاء فيه فإن قيل لا محذور في ذلك فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس قلت: هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك والإنس والجن فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} وهو كثير في القرآن وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال كما يقال الجن والإنس وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر فالصواب القول الثاني وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للذي يوسوس وأنهما نوعان إنس وجن فالجني يوسوس في صدور الإنس والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " رواه البخاري والترمذي فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني ويشتركان في الوسوسة وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن وعلى القول الأول إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط فتأمله فإنه بديع جدا فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين وله الحمد والمنة وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط فما ذلك على الله بعزيز والحمد لله رب العالمين ونختم الكلام على السورتين بذكر. قاعدة نافعة:
"فما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه " وذلك في عشرة أسباب:
الحرز الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان أحدهما: الاستعاذة بالله من الشيطان قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي موضع آخر {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع التام وتأمل سر القرآن الكريم كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين وبين قوله في حم المؤمن: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: " كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" رواه البخاري ومسلم
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه ولهذا قال النبي ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وقد تقدم أنه كان يعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة وتقدم قوله إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء الحرز

الثالث: قراءة أية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان" رواه البخاري وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده الحرز

الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان " رواه مسلم والترمذي
الحرز الخامس: قراءة خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " رواه البخاري ومسلم وفي الترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان " صحيح
الحرز السادس: أول سورة {حم} المؤمن إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} مع آية الكرسي في الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ضعيف وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته
الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ففي الصحيحين من حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك " رواه البخاري ومسلم فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه
الحرز الثامن: كثرة ذكر الله وهو من أنفع الحروز من الشيطان ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد يبطئ بها فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو بعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام قال وإن صلى وصام " صحيح فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " صحيح وفي أثر آخر " إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء" ضعيف فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة فإنها نار والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به والفكرة في الظفر به فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه " ضعيف جدا أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة كما قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وقال الآخر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم " صحيح لغيره وفي الترمذي "أن رجلا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له فقال النبي صلى الله عليه وسلم فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه" ضعيف وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملأن ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ولهذا جاء في بعض الآثار " ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن" ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت مخالطة الناس إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكمغرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض



[/b][/b]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://ashrfali.yoo7.com
 
تفسير سورة الناس من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة الفاتحة تفسير بن القيم 3
» تفسير سورة الشرح
» تفسير سورة الطارق
» تفسير سورة الفاتحة 4
» تفسير سورة الفاتحة 2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الشيخ أشرف علي عبد الموجود الداعية الإسلامي :: قسم تفسير القرآن العظيم-
انتقل الى: